منظمة جرين

اليمن السعيد والتصالح مع الطبيعة

يناير 23, 2025
اليمن السعيد والتصالح مع الطبيعة

اليمن السعيد : التصالح مع الطبيعة والتراث الثقافي

----

📝 المهندس : محمد الشرعبي

--------

كانت الحضارات اليمنية القديمة قائمة على نظام بيئي متميز يعرف بـ "العرم"، ويرمز العرم إلى أكثر من مجرد وصف لظاهرة السيل؛ إذ كان يُعتبر بمثابة كارثة بيئية تمثل عقابًا سماويًا للأشخاص الذين قاموا ببناء منشآت إدارية ومائية وزراعية وصناعية وتجارية ومدن سكنية ضخمة ، وهذا ما يتجلى في وصف القران الكريم لهذه المنشآت كآيات، كما ورد في سورة الشورى (الآيات 128 و129) وسورة سبأ (الآية 15).

وهذا يعد تمجيدا وشهادة سماوية لنوع الفعل والعمل المتقن الذي قام به الإنسان اليمني القديم.

الهجرة والعودة

بعد الانهيار، قرر أناس الهجرة إلى أراضي الشام والعراق، ناقلين معهم خبراتهم ومعارفهم بغرض الاستقرار من جديد ، ومع ذلك، عاد الكثير منهم إلى الجبال، التي كانت تُعد غابات موحشة، مما يضاعف الظلام الشديد نتيجة كثافة الغطاء الشجري. كما كانت تضم أنواعًا من الحيوانات المفترسة.

وتُمثل هذه المرحلة "مرحلة التصالح مع الطبيعة"، حيث بدأ الإنسان اليمني يعتمد على خبراته في مجال البناء والإنشاء والتشييد ، واستند إلى معارفه التقليدية في كيفية إدارة نفاياته الخاصة وعائلته، وبدأ يبحث عن طرق لتوفير مصادر المياه العذبة على ارتفاعات شاهقة تصل إلى 3000 متر.

تصميم المباني وإدارة المياه

في هذه المناطق المرتفعة، تم تصميم مبانٍ لا تتجاوز دورين، حيث أُنشئت على حواف الجبال لتكون مراكز سيطرة متكاملة تسمح بالرؤية الواسعة والتنبؤ بالقادمين الجدد ، وقد تم البناء وفقًا لحركة الشمس واتجاه الرياح، حيث وُضعت أماكن النوم والمعيشة في الاتجاه الجنوبي الغربي، بينما وضعت دورات المياه في اتجاه متعامد مع الرياح.

وشملت المبادرات أيضًا تصميم مجاري للصرف الصحي والمياه العادمة، حيث كانت تُوصل إلى الجوانب الشرقية للمنحدرات الجبلية تحت تلك المساكن ، ولم تُترك المياه والفضلات لتتدفق على المنحدرات فقط، بل قام الإنسان بزراعة الأشجار وأصناف التين الشوكي والشجيرات العطرية، مع تسوير المكان بمزيدٍ من الأشجار والشجيرات لضمان عدم وصول المياه المنحدرة إلى الأسفل، مما يضمن الحفاظ على البيئة ويكافح الروائح والميكروبات.

الابتكارات في المطبخ والعمارة

عاد الإنسان المتصالح مع الطبيعة إلى المطبخ، ولم يجد أمامه سوى الأحجار القاسية ، وبدلاً من ذلك، استخدم خبرته في ترويض الأحجار لصنع أدوات مطبخه، مثل الأواني وأدوات الطحن والسحق وغيرها ، كانت أدوات مثل "الحرضة" و"المدرة" و"المرهى" و"المرهك" ثم استخدم الطين المحروق في صناعة المدر والفخار وكانت الجرة والكوز والحيسي تُستخدم لأغراض متعددة، بدءًا من حفظ مياه الشرب إلى الطهي.

أما فيما يتعلق بالأثاث، فقد استخدم الإنسان الأخشاب والمخلفات الشجرية الأخرى، ما أدى إلى ظهور الخزفيات والأبواب والنوافذ، وتوسع الأمر ليشمل صناعة الملابس والحبال باستخدام نبات الأروكاريا. وهكذا، أظهرت تقنية الخيط براعة الإنسان اليمني وإبداعه في رسم أنماط حياة جديدة.

أنظمة المياه والزراعة

بالإضافة إلى ذلك، قام الإنسان الذي أنشأ نظامًا مائيًا على قمم الجبال المعروف باسم "المعاين" بمد قنوات لنقل المياه عبر المنحدرات، حيث أدرك أنه إذا تم حجز الماء بشكل مفرط، فإن ذلك قد يؤدي إلى كارثة بيئية ، وعبر هذه الأودية، قام بزراعة أنواع متعددة من النباتات المحبة للمياه، مثل التمر الهندي والموز وقصب السكر، مما يجسد تفاعله العميق مع البيئة.

كما ابتكر نظام إدارة المراعي وتربية النحل والماشية ، وقد وصل الأمر إلى حد إسكان الماشية في منزله.

وضمن رؤية استراتيجية شاملة، قام بزراعة جميع أنواع الحبوب المعروفة، مما يبرز بوضوح المهارات الزراعية التي توصل إليها.

السيادة الغذائية والابتكار المستدام

عبر الأودية التي يجري فيها الماء، قام المتصالح مع الطبيعة بزراعة أنواع متعددة من النباتات والأشجار المحبة للماء، مثل التمر الهندي الأحمر والموز وقصب السكر والعديد غيرها. كما قاموا بتطبيق مفهوم "التداخل الجراحي الزراعي" من خلال زراعة حواف الأراضي الزراعية بالفواكه والأشجار المثمرة والأشجار الخشبية. بالإضافة إلى ذلك، ابتكروا نظاماً متكاملاً لإدارة المراعي وتربية النحل والماشية، حتى أنهم أسكنوا الماشية في منازلهم.

وبفضل رؤية استراتيجية، تمت زراعة جميع أنواع الحبوب المعروفة عالمياً، وحتى تلك التي قد تكون جديدة على بعض الناس، في مخازن محفورة في الصخور.

إنه إنجاز يجسد ما نسميه "السيادة الغذائية"، حيث تجاوز هذا المفهوم حدود الاكتفاء الذاتي أو "الأمن الغذائي" كما يُعرف خطأً.

لم تكن الزراعة الواسعة النطاق نموذجاً نتعلمه في الجامعات، بل كانت الزراعة الممكنة، تلك التي تتكيف مع الواقع المتاح. وقد أثبت المزارعون المتصالحون مع الطبيعة مجدداً إبداعهم عندما أوجدوا المدرجات الزراعية، مما يعكس فهماً عميقاً للمعرفة والعلوم.

هنا يتجلى الإبداع الإنساني كآيات من الجمال، وهو تقدير من خالق الكون.

كل قرية يمنية غنية بما تحتويه، حيث يمكنك أن تجد في كل قرية ألف حل وابتكار. في كل بيت، تجد البقرة والثور والأغنام والماعز والدواجن والحمير، وكل بيت يعتمد على نفسه في تلبية احتياجاته الأساسية، ينتج السمن والجبن ويصنع السماد لتحسين الأرض.

يبنون المنازل والمدرجات والطرق والقنوات.

اليوم، لا أملك سوى أن أدعوكم جميعًا، وأدعو نفسي، لنندمج مع الطبيعة ونتصالح معها.